القطاع العام" السند في الأزمات" ولكن!
بقلم: عبدالمحسن سلامة
الأمر المؤكد أن العالم بعد "كورونا" سوف يختلف عما قبله فى أمور كثيرة لعل أهمها وأخطرها على الاطلاق الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى سوف تنشأ نتيجة "كورونا" ومخاطرها، ومشكلاتها، وتداعياتها الاقتصادية الرهيبة.
بدأت هذه المشكلات تظهر فى العالم، وفى كبرى الاقتصادات العالمية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التى فقد فيها 3 ملايين مواطن عملهم هناك خلال الأسبوع الماضى، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم خلال الأسبوع الحالى وربما يصل إلى أكثر من 14 مليون مواطن خلال الأيام القليلة المقبلة، نتيجة الأزمات التى تواجهها الشركات هناك، فى ظل نظام رأسمالى متوحش لا يعرف إلا لغة العمل والإنتاج والكسب، وإلا أغلقت الشركات والمصانع أبوابها على الفور وشردت العمالة وأطاحت بهم.
ليس معنى ذلك أن النظم الاشتراكية أفضل حالا من النظم الرأسمالية من حيث الخسائر والمشكلات الناتجة عن توقف حركة العمل والإنتاج، إلا أنه تظل الشركات العامة والمملوكة للدول هي "السند" فى الأزمات والكوارث، لأنها شركات لا تهتز بسرعة مثل شركات القطاع الخاص وتظل أكثر تماسكا وقدرة علي البقاء، وأيضا أقل توحشا ضد عمالتها فى أحلك الظروف والأوقات.
عموما لا أحد يستطيع التكهن بمستقبل العالم بعد كورونا ومن سيفوز فى الصراع الصين كممثل للاشتراكية أم أمريكا كممثل للرأسمالية أو الدول التى فى المنطقة الوسطى مثل روسيا التي عادت بقوة من جديد إلى صدارة المشهد الدولى بعد فترة من التعثر والارتباك عقب انهيار الاتحاد السوفيتى.
مصر أيضا ضمن دول المنطقة الوسطى ففيها قطاع خاص قوى وفى الوقت نفسه فيها قطاع عام لا يزال موجودا وبقوة حيث يوجد 210 آلاف عامل فى القطاعات الاستراتيجية المختلفة ضمن منظومة شركات قطاع الأعمال العام في كل الصناعات بلا استثناء تقريبا، وهو قطاع حيوى ومهم إلا أنه يعاني الكثير من الأمراض التي باتت تؤثر علي قدراته الإنتاجية والربحية، وتحول إلي "الرجل المريض"، في النشاط الاقتصادي نتيجة تراكم هذه المشكلات عبر عقود طويلة.
بداية نمو القطاع العام كانت في نهاية الخمسينيات وفترة الستينيات التى ازدهر فيها القطاع العام، وشهدت تلك الفترة حالة تأميم واسعة لأنشطة القطاع الخاص، وتحويلها إلى قطاع عام فى المجالات المختلفة.
لم يدار القطاع العام منذ نشأته على أسس اقتصادية، لكنه أدير على أسس سياسية، فكانت التعيينات العشوائية، والإدارة بأهل الثقة وليس بالخبرة، واستمر هذا الوضع لفترة طويلة وممتدة، وأصبح مثل كرة اللهب "يلسع" كل من يحاول الاقتراب منه أو اصلاحه.
أعتقد أن فشل محاولات الاصلاح السابقة يرجع إلى أن بعض هذه المحاولات لم تكن تستهدف "الاصلاح" بالمفهوم العلمى، وإنما كانت تستهدف "التصفية" والتخلص من الأعباء دون محاولات حقيقية للإصلاح.
الآن تغيرت تلك المفاهيم تماما، وأصبح الهدف هو إصلاح القطاع العام أو قطاع الأعمال العام "بغض النظر عن المسمى"، وبذل كل الجهود لحل مشكلاته وإعادة إطلاقه من جديد بما يضمن أولا استمرار دوره الإنتاجى ليكون سندا للدولة فى كل التحديات.
ثانيا: تطوير الأداء الاقتصادى لشركات قطاع الأعمال العام لتصبح رابحة تعمل وفق معايير اقتصادية رشيدة برؤية إدارية حديثة ومتطورة.
هذه هى استراتيجية قطاع الأعمال العام خلال المرحلة المقبلة، كما يؤكد د. هشام توفيق، وزير قطاع الأعمال العام، فالهدف هو الحفاظ على تلك المنظومة الإنتاجية الضخمة والخطيرة التى تعمل في مختلف المجالات بإجمالى عدد شركات 118 شركة تعمل فى 17 صناعة مختلفة تحت راية 8 شركات قابضة.
مشيرا إلى أن هذه الشركات تضم شركات ناجحة تحقق أرباحا سنويا وتبلغ 65 شركة، وتضم أيضا شركات خاسرة لا تحقق أرباحا وتبلغ 53 شركة.
فى تلك الأرقام المجردة هوامش كثيرة فالشركات الرابحة منها 8 شركات مراكزها المالية قوية جدا، وتم اختيارها كمجموعة أولى للطرح فى البورصة، وتم طرح شركة واحدة منها كبداية وهي الشركة الشرقية للدخان وهناك ثلاث شركات أخري في انتظار الطرح بعد انقشاع أزمة "كورونا"، فى حين سيتم طرح باقى تلك الشركات بالتدريج وفق معايير وضوابط وتوقيتات ملائمة تضعها لجنة علي أعلي مستوي برئاسة د. محمد معيط، وزير المالية.
بعيدا عن الـ 8 شركات المقرر طرحها فى البورصة فإن بقية الشركات الرابحة تحتاج إلى بعض الوقت لتأهيلها واتخاذ القرار اللازم بشأن طرحها من عدمه.
أما بالنسبة للشركات الخاسرة فهى أيضا ليست "قماشة" واحدة، وإنما فيها مساحة كبيرة من التنوع، فهناك شركات يمكن اصلاحها، وهناك شركات أخرى من الصعب بل ربما يكون مستحيلا اصلاحها.
الشركات التي يمكن اصلاحها تم إعداد برنامج خاص لها سوف يبدأ اطلاقه على الفور بعد انتهاء أزمة "كورونا" وإقرار مجلس النواب التعديلات المقترحة على قانون شركات قطاع الأعمال العام.
هذا البرنامج يقوم بالتركيز علي الشركات الأقل خسارة وهى نحو80% من إجمالي الشركات الخاسرة ويبلغ اجمالي خسارتها 20% من اجمالى خسائر الشركات الخاسرة، والبرنامج يهدف إلى إعادة تأهيل تلك الشركات وضخ استثمارات جديدة فيها لتحديث أدوات انتاجها، وزيادة قدراتها الانتاجية والتسويقية لتصبح على أعلي مستوى وطبقا للمعايير العالمية.
ولأن قطاع الغزل والنسيج من القطاعات الحيوية، فإن هناك خطة جاهزة الآن لتحريك هذا القطاع الذي يضم 32 شركة، واعادة تأهيلها، والتنسيق فيما بينها ليصبح لدي مصر أكبر مصنع نسيج في العالم يعمل بإدارة حديثة ومتطورة وفق أحدث النظم العالمية، ومن المتوقع أن تظهر تلك التجربة إلى النور قريبا.
المهم أن إصلاح الشركات ليس مستحيلا والدليل على ذلك أن هناك العديد من الشركات التى كانت تعانى الخسارة وتم علاج أوضاعها وتحولت إلى المكسب، ومن بين هذه الشركات شركة الدلتا للصلب بمسطرد التى تم تطويرها وتحديثها، بعد تدبير الموارد اللازمة لإعادة تأهيلها من حصيلة بيع جزء من الأراضى التى تمتلكها، والنتيجة كانت أكثر من رائعة حيث استطاعت الشركة تحويل خسارتها إلى مكسب، وعادت مرة أخرى إلى الدوران الاقتصادى الناجح لصالح دعم الاقتصاد الوطنى، وايضا لصالح جميع العاملين فيها الذين ساندوا خطوات الاصلاح بقوة بعيدا عن المزايدات والمهاترات لتعود الدلتا للصلب أقوى مما كانت.
ما ينطبق على الدلتا للصلب يصلح أن يكون نموذجا لاصلاح باقى الشركات المتعثرة، وتحويلها من شركات خاسرة إلى شركات رابحة لكى تستمر فى أداء دورها الاقتصادى بعيدا عن المسكنات "الموقوتة" التى تزول نتائجها فور انتهاء مدتها، والتي ثبت خطأ الاعتماد عليها خلال العقود الأربعة الأخيرة.
الخطوة التالية لإستراتيجية إصلاح شركات قطاع الاعمال العام هى اقرار التعديلات المقترحة على القانون الخاص بها والتى أقرها مجلس الوزراء، وتنتظر موافقة البرلمان.
ميزة هذه التعديلات أنها تضمن إدارة رشيدة وحديثة لهذا القطاع الحيوى لكى يستمر دوره الفعال، كما أنها تعطى حوافز "مغرية" للعاملين ومجالس إدارات الشركات من أجل تعظيم الأرباح وزيادتها، وتضمن تطبيق قواعد الحوكمة وزيادة مستويات الإفصاح والشفافية.
أعتقد أن هناك عوامل عديدة الآن تضمن نجاح استراتيجية تطوير وإنقاذ شركات قطاع الأعمال العام، لعل أهمها متغيرات ما بعد "كورونا" وأهمية تواجد تلك النوعية من الشركات تحت مظلة "الملكية العامة" لتكون السند فى وقت الأزمات، لكن بمفهوم عصرى حديث قائم علي الإدارة الرشيدة، والحوكمة، والشفافية بعيدا عن أعباء الكيانات الخاسرة التى يصعب استمرارها مهما كانت أهميتها.
أيضا فإن الأزمة الرئيسية التى عانت منها شركات قطاع الأعمال العام وكل الكيانات العامة كانت تكمن فى العمالة غير المؤهلة والتى تم تعيينها بضغوط سياسية أو مجتمعية، وقد شكلت تلك العمالة أعباء رهيبة على كاهل تلك الشركات وأسهمت فى افشال خطط الاصلاح خلال الفترة الماضية.
الآن الأوضاع بدأت فى التحسن بعد قرارات وقف التعيينات فى هذه الشركات، وخروج أعداد كبيرة من العاملين إلى المعاش، مما أسهم في تقليص أعداد تلك العمالة، وفتح الباب أمام فرص الاصلاح الهيكلي خلال الفترة المقبلة.
يزيد من فرص النجاح هذه المرة أيضا عودة الاعتبار إلي المنتج الوطنى بعد نجاح خطة الاصلاح الاقتصادى التى أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ أربع سنوات، وأسهمت فى تعزيز قدرات الاقتصاد المصرى وتحقيق العديد من المكتسبات التي كان من أبرز نتائجها وقوف الاقتصاد المصرى صامدا أمام وباء "كورونا" وتدبير كل موارد المواجهة "وطنيا" دون الاعتماد على المساعدات الخارجية، وقد ساهمت استراتيجية الإصلاح الاقتصادى في دعم مكانة المنتجات الوطنية المحلية التى عادت بقوة من جديد لتطرد المنتجات الأجنبية فى "المولات" والمحلات المتنوعة، وتحتل أماكنها بجدارة وكفاءة، بعيدا عن قرارات المنع أو المنح.
يبقي بعد ذلك دور "العمالة" فى مساندة خطط الاصلاح، وبذل المزيد من الجهد والعرق أمام ماكينات الانتاج لتدورعجلة الانتاج من جديد داخل شركات قطاع الأعمال العام بأعلى مستوى من الكفاءة والجودة والسعر الملائم، لتظل تلك الشركات السند الحقيقى للاقتصاد القومى فى كل الأزمات.